فصل: فَصْلٌ: الْحَلِفُ عَلَى الْخُرُوجِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: الْحَلِفُ عَلَى الْخُرُوجِ:

وَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَى الْخُرُوجِ فَالْخُرُوجُ هُوَ الِانْفِصَالُ مِنْ الْحِصْنِ إلَى الْعَوْرَةِ عَلَى مُضَادَّةِ الدُّخُولِ، فَلَا يَكُونُ الْمُكْثُ بَعْدَ الْخُرُوجِ خُرُوجًا كَمَا لَا يَكُونُ الْمُكْثُ بَعْدَ الدُّخُولِ دُخُولًا لِانْعِدَامِ حَدِّهِ وَحَقِيقَتِهِ، ثُمَّ الْخُرُوجُ كَمَا يَكُونُ مِنْ الْبُلْدَانِ وَالدُّورِ وَالْمَنَازِلِ وَالْبُيُوتِ يَكُونُ مِنْ الْأَخْبِيَةِ وَالْفَسَاطِيطِ وَالْخِيَمِ وَالسُّفُنِ لِوُجُودِ حَدِّهِ كَالدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الدُّورِ الْمَسْكُونَةِ أَنْ يَخْرُجَ الْحَالِفُ بِنَفْسِهِ وَمَتَاعِهِ وَعِيَالِهِ، كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ، وَالْخُرُوجُ مِنْ الْبُلْدَانِ وَالْقُرَى أَنْ يَخْرُجَ الْحَالِفُ بِبَدَنِهِ خَاصَّةً وَهَذَا يَشْهَدُ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ فِي بَلَدٍ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ دُونَ عِيَالِهِ لَا يَحْنَثُ، وَالتَّعْوِيلُ فِي هَذَا عَلَى الْعُرْفِ، فَإِنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ الدَّارِ وَأَهْلُهُ وَمَتَاعُهُ فِيهَا لَا يُعَدُّ خَارِجًا مِنْ الدَّارِ.
وَيُقَالُ: لَمْ يَخْرُجْ فُلَانٌ مِنْ الدَّارِ إذَا كَانَ أَهْلُهُ وَمَتَاعُهُ فِيهَا، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ الْبَلَدِ يُعَدُّ خَارِجًا مِنْ الدَّارِ وَإِنْ كَانَ أَهْلُهُ وَمَتَاعُهُ فِيهِ.
وَقَالَ هِشَامٌ سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ قَالَ: إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَخْرُجُ وَهُوَ فِي بَيْتٍ مِنْ الدَّارِ فَخَرَجَ إلَى صَحْنِ الدَّارِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الدَّارَ وَالْبَيْتَ فِي حُكْمِ بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْحَلِفُ عَلَى الْخُرُوجِ الْمُطْلَقِ يَقْتَضِي الْخُرُوجَ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ الْبَيْتِ فَإِذَا خَرَجَ إلَى صَحْنِ الدَّارِ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَهُوَ الِانْفِصَالُ مِنْ دَاخِلٍ إلَى خَارِجٍ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ قَالَ: نَوَيْت الْخُرُوجَ إلَى مَكَّةَ أَوْ خُرُوجًا مِنْ الْبَلَدِ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ الْمَكَانِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ، وَغَيْرُ الْمَذْكُورِ لَا يَحْتَمِلُ نِيَّةَ التَّخْصِيصِ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ: لَوْ قَالَ إنْ خَرَجْت فَعَبْدِي حُرٌّ.
وَقَالَ عَنَيْت بِهِ السَّفَرَ إلَى بَغْدَادَ دُونَ مَا سِوَاهَا لَمْ يُدَيَّنْ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا قُلْنَا.
وَقَالَ هِشَامٌ: سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الرَّيِّ إلَى الْكُوفَةِ فَخَرَجَ مِنْ الرَّيِّ يُرِيدُ مَكَّةَ وَطَرِيقُهُ عَلَى الْكُوفَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ إنْ كَانَ حِينَ خَرَجَ مِنْ الرَّيِّ نَوَى أَنْ يَمُرَّ بِالْكُوفَةِ فَهُوَ حَانِثٌ وَإِنْ كَانَ حِينَ خَرَجَ مِنْ الرَّيِّ نَوَى أَنْ لَا يَمُرَّ بِهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدَمَا خَرَجَ وَصَارَ مِنْ الرَّيِّ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ أَنْ يَمُرَّ بِالْكُوفَةِ فَمَرَّ بِهَا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ تُعْتَبَرُ حِينَ الْخُرُوجِ، وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وُجِدَتْ نِيَّةُ الْخُرُوجِ إلَى الْكُوفَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى أَنْ يَخْرُجَ إلَى مَكَّةَ وَيَمُرَّ فَقَدْ نَوَى الْخُرُوجَ إلَى الْكُوفَةِ وَإِلَى غَيْرِهَا فَيَحْنَثُ، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي لَمْ تُوجَدْ النِّيَّةُ وَقْتَ الْخُرُوجِ فَلَا يَحْنَثُ، وَإِنْ كَانَ نِيَّتُهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَى الْكُوفَةِ خَاصَّةً لَيْسَتْ إلَى غَيْرِهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ الْحَجُّ فَخَرَجَ وَنَوَى أَنْ يَمُرَّ بِالْكُوفَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا لَا يَحْنَثُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ مَا فِي لَفْظِهِ.
وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ خَرَجْت مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَّا إلَى الْمَسْجِدِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَخَرَجَتْ تُرِيدُ الْمَسْجِدَ ثُمَّ بَدَا لَهَا فَذَهَبَتْ إلَى غَيْرِ الْمَسْجِدِ لَمْ تَطْلُقْ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْخُرُوجَ إلَى الْمَسْجِدِ مُسْتَثْنًى مِنْ الْيَمِينِ وَلَمَّا خَرَجَتْ تُرِيدُ الْمَسْجِدَ فَقَدْ تَحَقَّقَ الْخُرُوجُ إلَى الْمَسْجِدِ فَوُجِدَ الْخُرُوجُ الْمُسْتَثْنَى فَبَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ قَصَدَتْ غَيْرَ الْمَسْجِدِ لَكِنْ لَا يُوجَدُ الْخُرُوجُ بَلْ الْمُكْثُ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِخُرُوجٍ لِعَدَمِ حَدِّهِ فَلَا يَحْنَثُ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَسَدٍ: سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ لَيَخْرُجَنَّ مِنْ الْبَلْدَةِ مَا الْخُرُوجُ؟ قَالَ إذَا جَعَلَ الْبُيُوتَ خَلْفَ ظَهْرِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ حَصَلَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ إلَّا بِالْخُرُوجِ مِنْ الْبَلَدِ فَعُلِمَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْبَلَدِ.
قَالَ عُمَرُ: سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ خَرَجْت فِي غَيْرِ حَقٍّ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَخَرَجَتْ فِي جِنَازَةِ وَالِدِهَا أَوْ أَخٍ لَا تَطْلُقُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَكَذَلِكَ خُرُوجُهَا إلَى الْعُرْسِ أَوْ خُرُوجُهَا فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يُرَادُ بِهِ الْوَاجِبُ عَادَةً وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْمُبَاحُ الَّذِي لَا مَأْثَمَ فِيهِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا إنْ خَرَجْتِ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَخَرَجَتْ مِنْهَا مِنْ الْبَابِ أَيَّ بَابٍ كَانَ وَمِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ فَوْقِ حَائِطٍ أَوْ سَطْحٍ أَوْ نَقْبٍ حَنِثَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْ الدَّارِ، وَلَوْ قَالَ إنْ خَرَجْت مِنْ بَابِ هَذِهِ الدَّارِ فَخَرَجَتْ مِنْ أَيِّ بَابٍ كَانَ مِنْ الْبَابِ الْقَدِيمِ أَوْ الْحَادِثِ بَعْدَ الْيَمِينِ حَنِثَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْ بَابِ الدَّارِ، وَلَا يَحْنَثُ بِالْخُرُوجِ مِنْ السَّطْحِ أَوْ فَوْقِ الْحَائِطِ أَوْ النَّقْبِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ، وَلَوْ عَيَّنَ بَابًا فِي الْيَمِينِ يَتَعَيَّنُ، وَلَا يَحْنَثُ بِالْخُرُوجِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ مُقَيِّدٌ فِي الْجُمْلَةِ فَيُعْتَبَرُ، وَلَوْ قَالَ إنْ خَرَجْت مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَّا فِي أَمْرِ كَذَا فَهَذَا، وَقَوْلُهُ إلَّا بِإِذْنِي وَاحِدٌ، وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ قَالَ إنْ خَرَجْتِ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مَعَ فُلَانٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَخَرَجَتْ وَحْدَهَا أَوْ مَعَ فُلَانٍ آخَرَ ثُمَّ خَرَجَ فُلَانٌ وَلَحِقَهَا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلْقِرَانِ فَيَقْتَضِي مُقَارَنَتَهَا فِي الْخُرُوجِ وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّ الْمُكْثَ بَعْدَ الْخُرُوجِ لَيْسَ بِخُرُوجٍ لِانْعِدَامِ حَدِّهِ، وَلَوْ قَالَ إنْ خَرَجْتِ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَصَعِدَتْ الصَّحْرَاءَ إلَى بَيْتِ عُلُوٍّ أَوْ كَنِيفٍ شَارِعٍ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي الْعُرْفِ لَا يُسَمَّى خُرُوجًا مِنْ الدَّارِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فَخَرَجَ مِنْهَا مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا أَوْ أَخْرَجَهُ رَجُلٌ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ أَوْ أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الدُّخُولِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ إلَى مَكَّةَ فَخَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ يُرِيدُ مَكَّةَ حَنِثَ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ مِنْ بَيْتِهِ هُوَ انْفِصَالٌ مِنْ دَاخِلِ بَلَدِهِ إلَى خَارِجِهِ عَلَى نِيَّةِ الْحَجِّ وَقَدْ وُجِدَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ خُرُوجِهِ مِنْ بَلَدِهِ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ بُيُوتَ بَلَدِهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ، وَلَوْ قَالَ لَا آتِي مَكَّةَ فَخَرَجَ إلَيْهَا لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَدْخُلْهَا؛ لِأَنَّ إتْيَانَ الشَّيْءِ هُوَ الْوُصُولُ إلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: لَا يَذْهَبُ إلَى مَكَّةَ فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَالْخُرُوجُ سَوَاءٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَالْإِتْيَانُ سَوَاءٌ،.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ خَرَجْت مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَّا بِإِذْنِي أَوْ بِأَمْرِي أَوْ بِرِضَائِي أَوْ بِعِلْمِي أَوْ قَالَ: إنْ خَرَجْت مِنْ هَذِهِ الدَّارِ بِغَيْرِ إذْنِي أَوْ أَمْرِي أَوْ رِضَائِي أَوْ عِلْمِي فَهُوَ عَلَى كُلِّ مَرَّةٍ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، وَهَاهُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: إحْدَاهَا: هَذِهِ، وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ خَرَجْت مِنْ هَذِهِ الدَّارِ حَتَّى آذَنَ لَك أَوْ آمُرَ أَوْ أَرْضَى أَوْ أَعْلَمَ وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ خَرَجْت مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَّا أَنْ آذَنَ لَك أَوْ آمُرَ أَوْ أَعْلَمَ أَوْ أَرْضَى أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى الْإِذْنِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى لَوْ أَذِنَ لَهَا مَرَّةً فَخَرَجَتْ ثُمَّ عَادَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنٍ حَنِثَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَذِنَ لَهَا مَرَّةً فَقَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ نَهَاهَا عَنْ الْخُرُوجِ ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ يَحْنَثُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ جَعَلَ كُلَّ خُرُوجٍ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَاسْتَثْنَى خُرُوجًا مَوْصُوفًا بِكَوْنِهِ مُلْتَصِقًا بِالْإِذْنِ لِأَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي حَرْفُ إلْصَاقٍ هَكَذَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ.
وَلَابُدَّ مِنْ شَيْئَيْنِ يَلْتَصِقَانِ بِآلَةِ الْإِلْصَاقِ كَمَا فِي قَوْلِك كَتَبْت بِالْقَلَمِ وَضَرَبْت بِالسَّيْفِ الْتَصَقَ الضَّرْبُ بِالسَّيْفِ وَالْكِتَابَةُ بِالْقَلَمِ وَلَيْسَ هاهنا شَيْءٌ مُظْهَرٌ يَلْتَصِقُ بِهِ الْإِذْنُ فلابد مِنْ أَنْ يُضْمَرَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ إنَّهُ يُضْمَرُ فِيهِ أَبْتَدِئُ، وَفِي بَابِ الْحَلِفِ قَوْلُهُ: بِاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَنَّهُ يُضْمِرُ فِيهِ أُقْسِمُ لِتَكُونَ الْبَاءُ مُلْصِقَةً لِلِاسْمِ بِقَوْلِهِ أَبْتَدِئُ، وَاسْمِ اللَّهِ فِي بَابِ الْحَلِفِ بِقَوْلِهِ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ، ولابد لِكُلِّ مُضْمَرٍ مِنْ دَلِيلٍ عَلَيْهِ، إمَّا حَالٌ وَإِمَّا لَفْظٌ مَذْكُورٌ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى مَا خَفِيَ غَيْرُ مُمْكِنٍ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْحَالِ وَلَا حَالَ هُنَا يَدُلُّ عَلَى إضْمَارِ شَيْءٍ فَأَضْمَرْنَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الْمَذْكُورُ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إنْ خَرَجْت وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا الْخُرُوجَ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إنْ خَرَجَ فُلَانٌ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ خُرُوجًا إلَّا خُرُوجًا بِإِذْنِي، وَالْمَصْدَرُ الْأَوَّلُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ فَيَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الثَّانِي مِنْهُ لِأَنَّهُ بَعْضُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَهُوَ خُرُوجٌ مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ الِالْتِصَاقِ بِالْإِذْنِ فَقَدْ نَفَى كُلَّ خُرُوجٍ وَاسْتَثْنَى خُرُوجًا مَوْصُوفًا بِكَوْنِهِ مُلْتَصِقًا بِالْإِذْنِ فَبَقِيَ كُلُّ خُرُوجٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَهُوَ الْخُرُوجُ الْعَامُّ الَّذِي هُوَ شَرْطُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَإِذَا وُجِدَ خُرُوجٌ اتَّصَلَ بِهِ الْإِذْنُ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَإِذَا وُجِدَ خُرُوجٌ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِهِ الْإِذْنِ كَانَ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، كَمَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ خَرَجْت مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَّا بِمِلْحَفَةٍ إنَّ كُلَّ خُرُوجٍ يُوصَفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِمِلْحَفَةٍ يَكُونُ مُسْتَثْنًى مِنْ الْيَمِينِ فَلَا يَحْنَثُ بِهِ، وَكُلَّ خُرُوجٍ لَا يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَبْقَى تَحْتَ عُمُومِ اسْمِ الْخُرُوجِ فَيَحْنَثُ بِهِ كَذَا هَذَا، فَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي مَرَّةً وَاحِدَةً يُدَيَّنْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْقَضَاءِ أَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى خِلَافَ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي تَكْرَارَ الْإِذْنِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لِمَا بَيَّنَّا (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ تَكْرَارَ الْإِذْنِ مَا ثَبَتَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِإِضْمَارِ الْخُرُوجِ فَإِذَا نَوَى مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ نَوَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فَيُصَدَّقُ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي لَوْ أَرَادَ الْخُرُوجَ لَا يَحْنَثُ، وَتَقْدِرُ الْمَرْأَةُ عَلَى الْخُرُوجِ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ، فَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ لَهَا: أَذِنْت لَك أَبَدًا أَوْ أَذِنْت لَك الدَّهْرَ كُلَّهُ أَوْ كُلَّمَا شِئْت الْخُرُوجَ فَقَدْ أَذِنْت لَك، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا أَذِنْت لَك عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَدَخَلَتْ مِرَارًا فِي الْعَشَرَةِ لَا يَحْنَثُ، فَلَوْ أَنَّهُ أَذِنَ لَهَا إذْنًا عَامًّا ثُمَّ نَهَاهَا عَنْ الْخُرُوجِ هَلْ يَعْمَلُ نَهْيُهُ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْمَلُ نَهْيُهُ وَيَبْطُلُ إذْنُهُ حَتَّى إنَّهَا لَوْ خَرَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِهِ يَحْنَثُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَعْمَلُ فِيهِ نَهْيُهُ وَرُجُوعُهُ عَنْ الْإِذْنِ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهَا مَرَّةً ثُمَّ نَهَاهَا صَحَّ نَهْيُهُ حَتَّى لَوْ خَرَجَتْ بَعْدَ النَّهْيِ يَحْنَثُ فَكَذَا إذَا أَذِنَ لَهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَجَبَ أَنْ يَعْمَلَ نَهْيُهُ وَيَرْتَفِعَ الْإِذْنُ بِالنَّهْيِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِذْنَ الْمَوْجُودَ عَلَى طَرِيقِ الْعُمُومِ فِي الْخَرْجَاتِ كُلِّهَا مِمَّا يُبْطِلُ الشَّرْطَ لِأَنَّ شَرْطَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الْخُرُوجُ الَّذِي لَيْسَ بِمَوْصُوفٍ بِكَوْنِهِ مُلْتَصِقًا بِالْإِذْنِ وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ الْإِذْنِ الْعَامِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ خُرُوجٍ يُوجَدُ بَعْدَهُ لَا يُوجَدُ إلَّا مُلْتَصِقًا بِالْإِذْنِ فَخَرَجَ الشَّرْطُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ وَلَا بَقَاءَ لِلْيَمِينِ بِدُونِ الشَّرْطِ كَمَا لَا بَقَاءَ لَهَا بِدُونِ الْجَزَاءِ لِأَنَّهَا تَتَرَكَّبُ مِنْ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَلَمْ يَبْقَ الْيَمِينُ فَوُجِدَ النَّهْيُ الْعَامُّ وَلَا يَمِينَ فَلَمْ يَعْمَلْ، بِخِلَافِ الْإِذْنِ الْخَاصِّ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ النَّهْيِ عَنْهَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ بِالْإِذْنِ بِالْخُرُوجِ مَرَّةً لَمْ تَرْتَفِعْ الْيَمِينُ فَجَاءَ النَّهْيُ وَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ فَصَحَّ النَّهْيُ وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَجَوَابُهَا أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْإِذْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً حَتَّى لَوْ أَذِنَ لَهَا مَرَّةً فَخَرَجَتْ ثُمَّ عَادَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنٍ لَا يَحْنَثُ.
وَكَذَا إذَا أَذِنَ لَهَا مَرَّةً ثُمَّ نَهَاهَا قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ حَتَّى كَلِمَةُ غَايَةٍ وَهِيَ بِمَعْنَى إلَى، وَكَلِمَةُ إلَى كَلِمَةُ انْتِهَاءِ الْغَايَةِ فَكَذَا كَلِمَةُ حَتَّى.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ حَتَّى آذَنَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ إلَى أَنْ آذَنَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ حَتَّى أَنْ آذَنَ، وَكَلِمَةُ أَنْ مُضْمِرَةٌ؛ لِأَنَّ حَتَّى لَمَّا كَانَتْ مِنْ عَوَامِلِ الْأَسْمَاءِ وَمَا كَانَ مِنْ عَوَامِلِ الْأَسْمَاءِ لَا يَدْخُلُ الْأَفْعَالَ أَلْبَتَّةَ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إضْمَارِ أَنْ لِتَصِيرَ هِيَ بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ صِلَتُهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ، تَقُولُ أُحِبُّ أَنْ تَقُومَ أَيْ أُحِبُّ قِيَامَك، فَيَكُونُ قَوْلُهُ حَتَّى آذَنَ أَيْ حَتَّى إذْنِي وَهُوَ قَوْلُهُ إلَى إذْنِي وَلِهَذَا أَدْخَلُوا كَلِمَةَ أَنْ بَعْدَ إلَى فَقَالُوا: إلَى أَنْ آذَنَ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ اعْتَادُوا الْإِظْهَارَ مَعَ إلَى وَهَاهُنَا مَعَ حَتَّى اعْتَادُوا الْإِضْمَارَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ وُجُودُ الْإِذْنِ مِنْهُ غَايَةً لِحَظْرِ الْخُرُوجِ، وَالْمَضْرُوبُ لَهُ الْغَايَةُ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُود الْغَايَةِ فَيَنْتَهِي حَظْرُ الْخُرُوجِ وَمَنْعُهُ بِالْيَمِينِ عِنْدَ وُجُودِ الْإِذْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ حَتَّى آذَنَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَيَجْعَلُ حَتَّى مَجَازًا عَنْ إلَى لِوُجُودِ مَعْنَى الِانْتِهَاءِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ فَيُصَدَّقُ.
(وَأَمَّا) الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فَلَا يَجُوزُ فِيهَا فَالْجَوَابُ فِي قَوْلِهِ حَتَّى آذَنَ فِي قَوْلِ الْعَامَّةِ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْجَوَابُ فِيهَا كَالْجَوَابِ فِي قَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كَلِمَةَ إلَّا اسْتِثْنَاءٌ فلابد مِنْ تَقْدِيمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَلَيْهَا وَتَأْخِيرِ الْمُسْتَثْنَى عَنْهَا، وَإِنْ مَعَ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ عَلَى مَا مَرَّ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إنْ خَرَجْت مِنْ الدَّارِ إلَّا خُرُوجًا بِإِذْنِي وَهَذَا لَيْسَ بِكَلَامٍ مُسْتَقِيمٍ فلابد مِنْ إدْرَاجٍ حَتَّى يَصِحَّ الْكَلَامُ فَنُدْرِجُ الْبَاءَ وَيُجْعَلُ مَعْنَاهُ إلَّا خُرُوجًا بِإِذْنِي، وَإِسْقَاطُ الْبَاءِ فِي اللَّفْظِ مَعَ ثُبُوتِهَا فِي التَّقْدِيرِ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ كَمَا رُوِيَ عَنْ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ فَقَالَ خَيْرٍ عَافَاك اللَّهُ أَيْ بِخَيْرِ.
وَكَذَا يَحْذِفُونَ الْبَاءَ فِي الْقَسَمِ فَيَقُولُونَ: اللَّهِ مَكَانَ قَوْلِهِمْ بِاَللَّهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْخَفْضِ وَالنَّصْبِ وَإِذَا كَانَ هَذَا جَائِزًا أُدْرِجَتْ لِضِرْوَةِ تَصْحِيحِ الْكَلَامِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} أَيْ إلَّا بِإِذْنٍ لَكُمْ حَتَّى كَانَ مُحْتَاجًا إلَى الْإِذْنِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَلَنَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بِنَفْسِهِ صَحِيحًا لَمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ ولابد مِنْ الْقَوْلِ بِتَصْحِيحِهِ، وَلَكِنَّ تَصْحِيحَهُ عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَأَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ أَيْضًا بِجَعْلِهِ إلَّا بِمَعْنَى حَتَّى وَإِلَى لِأَنَّ كَلِمَةَ إلَّا كَلِمَةُ اسْتِثْنَاءٍ وَمَا وَرَاءَ كَلِمَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ يَنْتَهِي عِنْدَ كَلِمَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَعِنْدَ وُجُودِ الْمُسْتَثْنَى، فَصَارَتْ كَلِمَةُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لِلْغَايَةِ، فَأُقِيمَ مَقَامَ الْغَايَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ خَرَجْت مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَى إذْنِي أَوْ حَتَّى إذْنِي، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ الْفَرَّاءُ لِأَنَّ تَصْحِيحَ الْكَلَامِ بِجَعْلِ كَلِمَةٍ قَائِمَةً مَقَامَ أُخْرَى أَوْلَى مِنْ التَّصْحِيحِ بِطَرِيقِ الْإِضْمَارِ؛ لِأَنَّ جَعْلَ الْكَلِمَةِ قَائِمَةً مَقَامَ أُخْرَى وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرْبُ تَغْيِيرٍ لَكِنَّ التَّغْيِيرَ تَصَرُّفٌ فِي الْوَصْفِ.
وَالْإِضْمَارُ إثْبَاتُ أَصْلِ الْكَلَامِ، وَالتَّصَرُّفُ فِي الْوَصْفِ بِالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ أَوْلَى مِنْ إثْبَاتِ الْأَصْلِ بِلَا شَكٍّ فَكَانَ هَذَا أَوْلَى عَلَى أَنَّ فِيمَا قَالَهُ إضْمَارُ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْبَاءُ، وَالْآخَرُ: الْجَالِبُ لِلْبَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ إلَّا خُرُوجًا وَلَيْسَ فِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ إدْرَاجُ شَيْءٍ بَلْ إقَامَةُ مَا فِيهِ مَعْنَى الْغَايَةِ مَقَامَ الْغَايَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَدْوَنُ فَكَانَ التَّصْحِيحُ بِهِ أَوْلَى، وَلِهَذَا كَانَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} أَيْ إلَى أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ أَيْ إلَى وَقْتِ تَقَطُّعِ قُلُوبِهِمْ وَهُوَ حَالَةُ الْمَوْتِ وَفِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} إنَّمَا اُحْتِيجَ إلَى الْإِذْنِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لَا بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ بَلْ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ دُخُولَ دَارِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ حَرَامٌ أَلَا يُرَى أَنَّهُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي آخِرِ قَوْله تَعَالَى- {إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} وَمَعْنَى الْأَذَى مَوْجُودٌ فِي كُلِّ سَاعَةٍ فَشَرَطَ الْإِذْنَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ، فَإِنْ قَالَ إلَّا بِإِذْنِ فُلَانٍ فَمَاتَ الْمَحْلُوفُ عَلَى إذْنِهِ بَطَلَتْ الْيَمِينُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هِيَ عَلَى حَالِهَا، وَهَذَا فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ حَلَفَ لَيَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ وَلَيْسَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ فِي قَوْلِ: أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَنْعَقِدُ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ تَصَوُّرَ وُجُودِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً فِي الْمُسْتَقْبَلِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْيَمِينِ، وَبَقَاؤُهُ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ حَقِيقَةً شَرْطُ بَقَاءِ الْيَمِينِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَإِنْ أَذِنَ لَهَا بِالْخُرُوجِ مِنْ حَيْثُ لَا تَسْمَعُ فَخَرَجَتْ بِغَيْرِ الْإِذْنِ يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَا يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِذْنَ يَتَعَلَّقُ بِالْإِذْنِ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُهُ وَقَدْ وُجِدَ فَأَمَّا السَّمَاعُ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَأْذُونِ فَلَا يُعْتَبَرُ لِوُجُودِ الْإِذْنِ كَمَا لَوْ وَقَعَ الْإِذْنُ بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ تَسْمَعَ وَهِيَ نَائِمَةٌ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُهُ؛ وَلِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ خُرُوجٌ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ مُطْلَقًا، وَهَذَا مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ لِوُجُودِ كَلَامِ الْإِذْنِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْحِنْثِ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِذْنِ أَنْ لَا تَخْرُجَ وَهُوَ كَارِهٌ وَقَدْ زَالَتْ الْكَرَاهَةُ بِقَوْلِهِ: أَذِنْتُ وَإِنْ لَمْ تَسْمَعْ وَلَهُمَا أَنَّ الْإِذْنَ إعْلَامٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أَيْ إعْلَامٌ وَقَوْلُهُ: أَذِنْتُ لَكِ بِحَيْثُ لَا تَسْمَعُ لَا يَكُونُ إعْلَامًا فَلَا يَكُونُ إذْنًا فَلَمْ يُوجَدْ خُرُوجٌ مَأْذُونٌ فِيهِ فَلَمْ يُوجَدْ الْخُرُوجُ الْمُسْتَثْنَى فَيَحْنَثُ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ اشْتَمَلَتْ عَلَى الْحَظْرِ وَالْإِطْلَاقِ فَإِنَّ قَوْلَهُ إنْ خَرَجْتِ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ يَجْرِي مَجْرَى الْحَظْرِ وَالْمَنْعِ، وَقَوْلَهُ إلَّا بِإِذْنِي يَجْرِي مَجْرَى الْإِطْلَاقِ، وَحُكْمُ الْحَظْرِ وَالْإِطْلَاقِ مِنْ الشَّارِعِ، وَالشَّرَائِعُ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الْبُلُوغِ، كَذَا مِنْ الْحَالِفِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمٍ شَرِبُوا الْخَمْرَ بَعْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِهِ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَصِيرُ وَكِيلًا قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْوَكَالَةِ حَتَّى يَقِفَ تَصَرُّفُهُ عَلَى إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، وَالتَّوْكِيلُ إذْنٌ وَإِطْلَاقٌ، وَلَهُمَا أَنَّ الْإِذْنَ إعْلَامٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أَيْ إعْلَامٌ وَقَوْلُهُ: أَذِنْتُ لَكِ بِحَيْثُ لَا تَسْمَعُ لَا يَكُونُ إعْلَامًا فَلَا يَكُونُ إذْنًا فَلَمْ يُوجَدْ خُرُوجٌ مَأْذُونٌ فِيهِ فَلَمْ يُوجَدْ الْخُرُوجُ الْمُسْتَثْنَى فَيَحْنَثُ، وَلِأَنَّ الْخُرُوجَ مَذْكُورٌ فِي مَحَلِّ النَّفْيِ فَيَعُمُّ كُلَّ خُرُوجٍ إلَّا الْخُرُوجَ الْمُسْتَثْنَى وَهُوَ الْخُرُوجُ الْمَأْذُونُ فِيهِ مُطْلَقًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا خُرُوجًا مُسْتَثْنًى فَبَقِيَ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ الْخُرُوجِ فَيَحْنَثُ بِخِلَافِ مَا إذَا مَا كَانَتْ نَائِمَةً فَأَذِنَ لَهَا بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ تَسْمَعَ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يُعَدُّ سَمَاعًا عُرْفًا وَعَادَةً، كَمَا إذَا أَذِنَ لَهَا وَهِيَ تَسْمَعُ إلَّا أَنَّهَا غَافِلَةٌ، وَمَسْأَلَتُنَا مَفْرُوضَةٌ فِيمَا إذَا أَذِنَ لَهَا مِنْ حَيْثُ لَا تَسْمَعُ عَادَةً وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعَدُّ سَمَاعًا فِي الْعُرْفِ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ،.
وَقِيلَ إنَّ النَّائِمَ يَسْمَعُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِوُصُولِ الصَّوْتِ إلَى صِمَاخِ أُذُنِهِ وَالنَّوْمُ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ وَإِنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ فَهْمِ الْمَسْمُوعِ فَصَارَ كَمَا لَوْ كَلَّمَهُ وَهُوَ يَقْظَانُ لَكِنَّهُ غَافِلٌ وَحَكَى ابْنُ شُجَاعٍ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ قَدْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْإِذْنِ وَقَدْ أَذِنَ.
قَالَ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الْأَمْرِ.
وَرَوَى نَصْرُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِي مُطِيعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، إلَّا أَنَّ أَبَا سُلَيْمَانَ حَكَى الْخِلَافَ فِي الْإِذْنِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ خَرَجْتَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَّا بِإِذْنِي فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ: لَهُ أَطِعْ فُلَانًا فِي جَمِيعِ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ فَأَمَرَهُ فُلَانٌ بِالْخُرُوجِ فَخَرَجَ فَالْمَوْلَى حَانِثٌ لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ وَهُوَ الْخُرُوجُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالْخُرُوجِ وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِطَاعَةِ فُلَانٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمَوْلَى لِرَجُلٍ: ائْذَنْ لَهُ فِي الْخُرُوجِ فَأَذِنَ لَهُ الرَّجُلُ فَخَرَجَ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالْخُرُوجِ وَإِنَّمَا أَمَرَ فُلَانًا بِالْإِذْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ: قُلْ: يَا فُلَانُ مَوْلَاك قَدْ أَذِنَ لَك فِي الْخُرُوجِ فَقَالَ لَهُ فَخَرَجَ، فَإِنَّ الْمَوْلَى حَانِثٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَإِنَّمَا أَمَرَ فُلَانًا بِالْإِذْنِ، وَلَوْ قَالَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ بَعْدَ يَمِينِهِ: مَا أَمَرَك بِهِ فُلَانٌ فَقَدْ أَمَرْتُكَ بِهِ فَأَمَرَهُ الرَّجُلُ بِالْخُرُوجِ فَخَرَجَ، فَالْمَوْلَى حَانِثٌ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمَوْلَى مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ إلَّا بِرِضَاهُ، فَإِذَا قَالَ: مَا أَمَرَك بِهِ فُلَانٌ فَقَدْ أَمَرْتُكَ بِهِ فَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ فُلَانًا يَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ، وَالرِّضَا بِالشَّيْءِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ لَا يُتَصَوَّرُ، فَلَمْ يُعْلَمْ كَوْنُ هَذَا الْخُرُوجِ مَرْضِيًّا بِهِ، فَلَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ مُسْتَثْنًى فَبَقِيَ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَلَوْ قَالَ الْمَوْلَى لِلرَّجُلِ: قَدْ أَذِنْتُ لَهُ فِي الْخُرُوجِ فَأَخْبَرَ الرَّجُلُ بِهِ الْعَبْدَ لَمْ يَحْنَثْ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْإِذْنَ مِنْ الْمَوْلَى قَدْ وُجِدَ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ الْعَبْدَ، فَإِذَا أَخْبَرَهُ بِهِ فَقَدْ بَلَغَهُ فَلَا يَحْنَثُ.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ خَرَجْتِ إلَّا بِإِذْنِي ثُمَّ قَالَ لَهَا إنْ بِعْتِ خَادِمَكِ فَقَدْ أَذِنْتُ لَك لَمْ يَكُنْ مِنْهُ هَذَا إذْنًا؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَرَةٌ يَجُوزُ أَنْ تَبِيعَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَبِيعَ فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ رِضًا.
وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا قَالَ لَهَا إنْ خَرَجْتِ إلَّا بِأَمْرِي فَالْأَمْرُ عَلَى أَنْ يَأْمُرَهَا وَيُسْمِعَهَا أَوْ يُرْسِلَ بِذَلِكَ رَسُولَهُ إلَيْهَا، فَإِنْ أَشْهَدَ قَوْمًا أَنَّهُ قَدْ أَمَرَهَا ثُمَّ خَرَجَتْ فَهُوَ حَانِثٌ، فَقَدْ فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَبَيْنَ الْإِذْنِ حَيْثُ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْإِذْنِ إسْمَاعَهَا، وَإِرْسَالَ الرَّسُولِ بِهِ وَشَرَطَ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لَهُ أَنَّ حُكْمَ الْأَمْرِ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ كَمَا فِي أَمْرِ الشَّرْعِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْإِذْنِ هُوَ الرِّضَا، وَهُوَ أَنْ لَا تَخْرُجَ مَعَ كَرَاهَتِهِ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِنَفْسِ الْإِذْنِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَوْ غَضِبَتْ وَتَهَيَّأَتْ لِلْخُرُوجِ فَقَالَ: دَعُوهَا تَخْرُجْ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَلَا يَكُونُ هَذَا إذْنًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْإِذْنَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ دَعُوهَا لَيْسَ بِإِذْنٍ نَصًّا بَلْ هُوَ أَمْرٌ بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهَا وَذَلِكَ بِأَنْ لَا تُمْنَعَ مِنْ الْخُرُوجِ أَوْ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهَا فَلَا يَحْصُلُ إذْنًا بِدُونِ النِّيَّةِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا فِي غَضَبِهِ: اُخْرُجِي وَلَا نِيَّةَ لَهُ كَانَ عَلَى الْإِذْنِ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى الْأَمْرِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ اُخْرُجِي حَتَّى تَطْلُقِي فَيَكُونُ تَهْدِيدًا، وَالْأَمْرُ يَحْتَمِلُ التَّهْدِيدَ كَمَا فِي أَمْرِ الشَّرْعِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} فَإِذَا نَوَى التَّهْدِيدَ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ.
وَلَوْ قَالَ: عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ إلَّا إنْ نَسِيَ فَدَخَلَهَا نَاسِيًا ثُمَّ دَخَلَ بَعْدَ ذَلِكَ ذَاكِرًا لَمْ يَحْنَثْ، وَهَذَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ الْعَامَّةِ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ خَرَجْتِ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَّا أَنْ آذَنَ لَك أَنَّ قَوْلَهُ إلَّا أَنْ لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ حَتَّى، فَلَمَّا دَخَلَهَا نَاسِيًا فَقَدْ انْتَهَتْ الْيَمِينُ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْحِنْثُ بِدُخُولِ هَذِهِ الدَّارِ بِهَذِهِ الْيَمِينِ بِحَالٍ.
وَلَوْ قَالَ: إنْ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ إلَّا نَاسِيًا فَدَخَلَهَا نَاسِيًا ثُمَّ دَخَلَهَا ذَاكِرًا حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى كُلِّ دُخُولٍ وَحَظَرَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنَعَهَا مِنْهُ وَاسْتَثْنَى مِنْهُ دُخُولًا بِصِفَةٍ وَهُوَ أَنَّهُ يَكُونُ عَنْ نِسْيَانٍ فَبَقِيَ مَا سِوَاهُ دَاخِلًا تَحْتَ الْيَمِينِ فَيَحْنَثُ بِهِ.
قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ إنْ دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ دَخْلَةً إلَّا أَنْ يَأْمُرَنِي فُلَانٌ فَأَمَرَهُ فُلَانٌ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ إنْ دَخَلَ هَذِهِ الدَّخْلَةَ وَلَا بَعْدَهَا وَقَدْ سَقَطَتْ الْيَمِينُ، وَهَذَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ وَاحِدٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إلَّا أَنْ لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ كَحَتَّى فَإِذَا وُجِدَ الْأَمْرُ مَرَّةً وَاحِدَةً انْحَلَّتْ الْيَمِينُ.
وَلَوْ قَالَ إنْ دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ دَخْلَةً إلَّا أَنْ يَأْمُرَنِي بِهَا فُلَانٌ فَأَمَرَهُ فَدَخَلَ ثُمَّ دَخَلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، ولابد هاهنا مِنْ الْأَمْرِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ الْأَمْرَ بِالدَّخْلَةِ بِحَرْفِ الْوَصْلِ وَهِيَ حَرْفُ الْبَاءِ فلابد مِنْ الْأَمْرِ فِي كُلِّ دَخْلَةٍ كَمَا لَوْ قَالَ: إلَّا بِأَمْرِ فُلَانٍ.
قَالَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا تَخْرُجُ امْرَأَتُهُ إلَّا بِعِلْمِهِ فَأَذِنَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ فَخَرَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إلَّا بِعِلْمِي أَيْ إلَّا بِإِذْنِي وَقَدْ خَرَجَتْ فَكَانَ خُرُوجًا مُسْتَثْنًى فَلَا يَحْنَثُ.
وَإِذَا حَلَفَ رَجُلٌ عَلَى زَوْجَتِهِ أَوْ مَوْلًى عَلَى عَبْدِهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ دَارِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ، أَوْ سُلْطَانٌ حَلَّفَ رَجُلًا أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ كَوْرَةٍ إلَّا بِإِذْنِهِ ثُمَّ بَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ خَرَجَ الْعَبْدُ مِنْ مِلْكِ الْمَوْلَى أَوْ عُزِلَ السُّلْطَانُ عَنْ عَمَلِهِ فَكَانَ الْخُرُوجُ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَا حِنْثَ عَلَى الْحَالِفِ، وَتَقَعُ الْيَمِينُ عَلَى الْحَالِ الَّتِي يَمْلِكُ الْحَالِفُ فِيهَا الْإِذْنَ، فَإِنْ زَالَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ سَقَطَتْ الْيَمِينُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُسْتَحْلِفِ مِنْ ذَلِكَ تَنْفِيذُ وِلَايَتِهِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَخْرُجَ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ إلَّا بِأَمْرِهِ فَيَتَقَيَّدُ بِحَالِ قِيَامِ الْوِلَايَةِ فَإِذَا زَالَتْ زَالَتْ الْيَمِينُ، فَإِنْ عَادَتْ الْمَرْأَةُ إلَى مِلْكِ الزَّوْجِ أَوْ الْعَبْدُ إلَى مِلْكِ الْمَوْلَى أَوْ أُعِيدَ السُّلْطَانُ إلَى وِلَايَتِهِ لَا تُعَادُ الْيَمِينُ لِأَنَّهَا قَدْ سَقَطَتْ لِمَا بَيَّنَّا فَلَا تَحْتَمِلُ الْعَوْدَ، وَكَذَلِكَ الْغَرِيمُ إذَا حَلَفَ الْمَطْلُوبُ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ بَلَدِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ فَالْيَمِينُ مُقَيَّدَةٌ بِحَالِ قِيَامِ الدَّيْنِ فَإِنْ قَضَاهُ الْمَطْلُوبُ أَوْ أَبْرَأَ الطَّالِبُ سَقَطَتْ الْيَمِينُ، فَإِنْ عَادَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الدَّيْنُ أَوْ غَيْرُهُ لَمْ تَعُدْ الْيَمِينُ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُسْتَحْلِفِ أَنْ لَا يَخْرُجَ لِأَجْلِ ذَلِكَ الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ وَقْتَ الْحَلِفِ، فَإِذَا أُسْقِطَ ذَلِكَ بَطَلَ الْيَمِينُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي عَامِلٍ اسْتَحْلَفَ رَجُلًا أَنْ يَرْفَعَ إلَيْهِ كُلُّ مَنْ عَلِمَ بِهِ مِنْ فَاسِقٍ أَوْ دَاعِرٍ أَوْ سَارِقٍ فِي مَحَلَّتِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى عُزِلَ الْعَامِلُ عَنْ عَمَلِهِ ثُمَّ عَلِمَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَهُ وَقَدْ خَرَجَ عَنْ يَمِينِهِ، وَبَطَلَتْ عَنْهُ لِأَنَّهَا تَقَيَّدَتْ بِحَالِ عَمَلِهِ بِدَلَالَةِ الْغَرَضِ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْعَامِلِ أَنْ يَرْفَعَ إلَيْهِ مَادَامَ وَالِيًا فَإِذَا زَالَتْ وِلَايَتُهُ ارْتَفَعَتْ الْيَمِينُ فَإِنْ عَادَ الْعَامِلُ عَامِلًا بَعْدَ عَزْلِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يَرْفَعَ ذَلِكَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ قَدْ بَطَلَتْ فَلَا تَعُودُ سَوَاءٌ عَادَ عَامِلًا بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعُدْ، وَلَوْ كَانَ الْحَالِفُ عَلِمَ بِبَعْضِ مَا اُسْتُحْلِفَ عَلَيْهِ فَأَخَّرَ رَفْعَ ذَلِكَ حَتَّى عُزِلَ الْعَامِلُ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ، وَلَمْ يَنْفَعْهُ رَفْعُ ذَلِكَ إلَيْهِ بَعْدَ عَزْلِهِ؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ تَقَيَّدَ بِحَالِ قِيَامِ الْوِلَايَةِ، فَإِذَا زَالَتْ الْوِلَايَةُ فَقَدْ فَاتَ شَرْطُ الْبِرِّ.
قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ: إلَّا أَنْ يَعْنِيَ أَنْ يَرْفَعَ إلَيْهِمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ، وَأَدِينُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى ظَاهِرَ كَلَامِهِ وَهُوَ الْعُمُومُ فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً وَقَضَاءً.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ: إذَا حَلَفَ أَنْ لَا تَخْرُجَ امْرَأَتُهُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ وَلَا عَبْدُهُ فَبَانَتْ مِنْهُ أَوْ خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْ مِلْكِهِ ثُمَّ خَرَجَتْ حَنِثَ، وَلَا يَتَقَيَّدُ بِحَالِ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْمِلْكِ لِانْعِدَامِ دَلَالَةِ التَّقْيِيدِ وَهِيَ قَوْلُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَيُعْمَلُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، فَإِنْ عَنَى بِهِ مَا دَامَتْ امْرَأَتُهُ يُدَيَّنْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّهُ عَنَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ الْعُمُومِ، وَإِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَكَذَلِكَ مَنْ طُولِبَ بِحَقٍّ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ دَارِ مُطَالَبِهِ حَنِثَ بِالْخُرُوجِ، زَالَ ذَلِكَ الْحَقُّ أَوْ لَمْ يَزُلْ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَخْرُجَ وَقَدْ أَخَذَتْ فِي ذَلِكَ أَوْ الْعَبْدُ أَوْ أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ وَقَدْ نَهَضَ لِذَلِكَ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ خَرَجْتِ، أَوْ قَالَ الْمَوْلَى: أَنْتَ حُرٌّ إنْ خَرَجْتَ، أَوْ قَالَ رَجُلٌ لِلضَّارِبِ: عَبْدِي حُرٌّ إنْ ضَرَبْتَهُ فَكَفُّوا عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَتْ الْيَمِينُ حَتَّى لَوْ خَرَجَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ ضَرَبَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ لَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ مِنْ هَذِهِ الْيَمِينِ الْمَنْعُ مِنْ الْخُرُوجِ فِي الْحَالِ، أَوْ الضَّرْبُ فَتَقَيَّدَتْ بِالْحَالِ بِدَلَالَةِ الْغَرَضِ فَتَزُولُ الْيَمِينُ بِزَوَالِ الْحَالِفِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الْحِنْثُ بِالْخُرُوجِ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ يَمِينِ الْفَوْرِ، وَنَظَائِرُهَا تَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعِهَا.